عصام الزهيرى يكتب : وصية حمدى أبو جليل الأخيرة

عصام الزهيرى يكتب : وصية حمدى أبو جليل الأخيرة
عصام الزهيرى يكتب : وصية حمدى أبو جليل الأخيرة

حمدى كان صديقي. لا، فى الواقع حمدى كمان سيظل صديقي ، حقيقة موته الذى صدم به الجميع وأنا بينهم لن تؤثر فى استمرار صداقتنا على أى نحو ، لا أحد يصدق حقيقة رحيل حمدى أبوجليل بلا أسباب تقريبا ، لكنى أنصت لتعبير كل واحد عن صدمته وأنا أعرف أنه كان يمكن أن يسخر من ذلك.

حقيقة رحيل حمدى لن تؤثر على صداقتنا ،  فقط لايزال من المستحسن أن أكتب عنها بعد أن أتخفف ولو بعض الشيء من آثار صدمة رحيله، لكنّ لدى عنادا داخليا يرفض الانتظار بإصرار، كان حمدى يدفعنى فى كل فرصة للكتابة ، والكتابة عنده ليست هى العبء الذى يحمله الكاتب فوق صدره ليصعد به أدوارا شاهقة كما لو كان يعمل فى الفاعل، ولكنها الكتابة التى تشبه التنفس ، هل تحب أن تعرف كيف تتنفس الكلمات بشهيق عميق يجعلك تملأ الكون كله ، وزفير أعمق يقتلع من يقرأ كلماتك اقتلاعا؟ تحب أن تعرف كيف تلوك الكلمات، تقبلها وتعضها، تطحنها بضروسك، تهضمها بين فكيك مضغا، تنام معها وتتمضمض بها، تنقلها مثل غذاء من جانب لآخر فى فمك المتسع كقاموس، تفعل ذلك كله فى لمح البصر قبل أن تقرر أن تخرج الكلمة من فمك، تلقيها، أو تمررها، أو تبصقها، أو تباصيها، أو تتركها معلقة، أو تعيد ابتلاعها بنفس حروفها المسموعة للآخرين؟

أسأل حمدى أبو جليل.

ها أنا أكتب بحالة لم أختبرها وطريقة لم أجربها من قبل أبدا يا أبوجليل.

هل الإنسان فعلا قادر على كل شيء؟

هذه العبارة كتبها أبوجليل فى رواية «الفاعل» ، الفاعل أول سلسلة من خمس روايات عظيمة، عظيمة فعلا، عظيمة حرفيا، عظيمة بلا مبالغة، عظيمة عظيمة كما كان الروائى يفضل أن يدوس بنبرته على الكلمات المكتوبة ، روايات «الفاعل»، «لصوص متقاعدون»، «الصاد شين»، «يدى الحجرية»، «ديك أمي» والأخيرة لم يتسع الوقت بعد لنشرها. خمس روايات اقترب بها الروائى بسرعة من «رواية نوبل» التى كنت أتوقع أن يتحفنا بها فى وقت قريب.

 

حمدى كان يصدق أن الإنسان قادر على كل شيء ، وأنا كنت أقول له: كيف يواتيك قلبك على أن تقول هذا يا رجل؟ الإنسان فى الواقع مسحوق، وماضى البشرية كله كما يتداوله المؤرخون ربما لا يكون غير جدارية مؤسفة من الانسحاق المتتابع أمام ضراوات لا يمكن تخيل وجودها إلا فى الواقع البشري ، صحيح أن التقدم يحدث، لكنه يحدث ببطء فى كل العصور، ببطء قاتل يا حمدي، يحدث ببطء بالذات فى الفيوم، عند الأطراف بعيدا عن مراكز التحديث المتقدمة ، وكان يرد بأن الإنسان سيتخلص من الانسحاق ومن البطء ومن الأطراف نفسها عندما يقرر أن يتخلص من الانسحاق والبطء لأن الإنسان قادر على أن يصبح كله قلبا وعقلا، الإنسان قادر على كل شيء.

فيما بعد جعل عبارته المثيرة الغامضة شعارا تعريفيا على صفحته فى فيس بوك. ففكرت أن غموض العبارة يتوقف على معرفة من هو الإنسان وما هو كل شيء. فإذا عرفت الإنسان وعرفت ما يريد تحققت بنفسك من أنه يستطيع تحقيقه فعلا ، ولو كان تحقيقه يتطلب معجزة من وجهة نظرك فإنه يستطيع أن يأتى بتلك المعجزة ، وهكذا فهم حمدى الحياة عموما، ليس من خلال أى شكل من أشكال التجريد والتعميم للمعنى، ولكن من خلال تدقيق وتعمق المعنى، وتجسيده - فكرا ونطقا وكتابة - بطريقة مجسمة تعيد خلقه مجسما، دور التجريد اللغوى فقط هو الإشارة إلى الأعماق القصية التى لا تنال بالتجريد والتعميم، وربما لا تنال باللغة فى حد ذاتها.

فى سنة 2000 قُدم حمدى أبو جليل مع أستاذه وصديقه الروحى إبراهيم أصلان للتحقيق بتهمة نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائى السورى حيدر حيدر. الرواية تحكى عن مناضل شيوعى هرب من العراق إلى الجزائر وارتبط بمناضلة جزائرية تعيش زمن انهيار الثورة وبين خرائب واقع أحلامها الكبرى المنهارة ، كانت جريدة «الشعب» المتطرفة تمارس فى ذلك الوقت حملة إرهاب فكرى عنيف ضد الرواية وكاتبها السورى وناشرها المصري، عناوين دموية مثل «من يبايعنى على الموت»! الناشر كان

الهيئة العامة لقصور الثقافة وسلسلة النشر كان يرأس تحريرها الروائى الكبير إبراهيم أصلان ومدير تحريرها الروائى الشاب حمدى أبو جليل. وكان بوسع أبوجليل وقتها أن يتنحى فى الظل ليظل بمنأى عن الاستهداف ليتحمل رئيس التحرير وحده المسئولية والمحاكمة ، لكنه لم يطق فعل ذلك بحكم كونه مشاركا بالموقع والمسئولية فى القراءة والفحص والاختيار ، لذلك اعترف بمسئوليته بشجاعة لم يدرك البعض قيمتها وضرورتها إلا عندما وقّع مئات من كتّاب ومثقفى مصر على عريضة قُدمت للنيابة، قالوا فيها إنهم يعدون أنفسهم مشاركين بالمسئولية الأدبية والأخلاقية والقانونية الكاملة فى نشر هذه الرواية، وأنهم يعتبرون عريضتهم بلاغا فى أنفسهم يستدعى محاكمتهم، لو كان نشر رواية يستدعى المحاكمة.

لم يكن موقف أبوجليل - كما تصور البعض وقتها – موقفا فكريا أو سياسيا ولا حتى قانونيا فقط. لكنه موقف وجودى نبت من جذور عميقة لا يراها غيره، جذور تكمن باطمئنان فى تربة القارة مترامية الأطراف المستقرة بداخل أعماقه الخصبة ، لم يتعمد حمدى أن يلقى الضوء على شيء من ذلك فيما بعد، لكن قارته تلك انكشفت بتمامها فى رواية «الفاعل»، وفى شخصية الجد «عولة بو رسلان» الذى قتل انتقاما لمقتل «ضيف الله» أحد رجاله بيد غريب من بنى سويف حاول سرقته، فى الرواية كان مطلوبا من «عولة» - بعد تدخل شيخ العرب «حمد باشا الباسل» - إما أن يحلف هو ورجاله على براءتهم من دم القتيل أو يدفعوا دية دمه. وبعد أن حلف الرجال بأنهم ما قتلوه ولا حتى (شافوا) اللى قتله، تقدم الجد فقال بعد أن وضع يده على المصحف: «وحق ها الطالب الغالب إنى نا اللى قتلته، وهضول (هؤلاء) كانوا معاي».

خلال أزمة الوليمة بما أحاطها من تحقيق واحتمالات المحاكمة والسجن، حرص حمدى على التنبيه على كل المحيطين به ألا يذكروا شيئا مما يجرى لأمه المقيمة فى البلد حتى لا تصاب بالفزع ، لكن أمه حدثته خلال أول زيارة له بأنها رأت حلما كان هو فيه، شافته جالسا فى وليمة يأكل وحوله أناس متجمهون كأنهم قابضين عليه، وسألته مباشرة: حد مهددك بالسجن يا ولدي؟

عندما كتب أبوجليل روايته الرابعة «يدى الحجرية» كانت أول عبارة فيها: «أكتب الآن فى بيت أمي، البيت الذى أحبته أمي». وصف سكّان هذا البيت بأنهم كانوا يستعدون للموت فى استسلام كامل وخضوع متمم لقضاء الله وقدره ، مات الجد «عولة» متأثرا ربما بقرب وفاة حنّى (الجدة) طامية ، وعادت أمه من ميتمه مباشرة على «ميتت» طامية ، وتحدثت فى عبارات عن الطريقة التى كانت الأم تنطق بها كلمة «ميتت»: «أمى كانت تطلق كلمة «ميتت» على وفاة الإنسان، وتؤرخ بها، يوم «ميتت» فلان ويوم «ميتت» علانة، وكأنه يُمات أو تُمات ولا يموت بنفسه أو تموت بنفسها، لا أعرف لماذا كنت أتخيل «ميتت» فى خنقة، ميتت تعنى خنق الإنسان حتى الموت، وكلما قالت «ميتت» أتخيلها خنقة عنيفة لإنسان غافل».

لكن الإنسان فعلا «يمات» أو «تمات» يا حمدي، الإنسان لا يموت بنفسه وبنفسها فاعلا إلا مجازا فى اللغة.

كان للروائى رأى مختلف، قل كانت له – منه - قارة أخرى غارقة فى أعماقه. فالإنسان لا يموت فعلا إلا بعد أن يستسلم للموت، كأنما يموت بقرار، أو على الأقل بشبه موافقة منه على الموت مع توقيع استسلام على قرار موته الحتمي. وهكذا فعلت أمه فى الواقع خلال الأيام الأخيرة من حياتها، مارست كل فعل وقالت كل قول يمكن أن يُفهم منه إقبالها على الرحيل وقبولها بقراره.

ما يعذبنى فى هذه اللحظة كثيرا أن حمدى لم يعد هنا لأسأله: هل فعل ذلك هو أيضا؟

الأسبوعان الأخيران قبل وفاته قضى منهما أبوجليل أسبوعا بيننا فى الفيوم. أبدى خلاله رغبته فى لقاء الجميع، حتى هؤلاء الذين لم يلقهم بموعد من قبل، تذكر دائما على غير عادته أن يحمل رواية له لمن طلبها وبسرعة غير مألوفة منه، قبل وفاته بستة أيام وضع صورته مع أبيه الروحى أصلان وكتب فوقها: وحشتنى يا أستاذ إبراهيم والله ، وأفصح عن رغبته فى بناء قصر ثقافة فى قريته شرعنا فى استطلاع إجراءات تخصيص أرض من المحافظة له، لكنه أدهشنى المرة تلو الأخرى بإفصاحه بإلحاح عن رغبته فى بناء قصر ثقافة فى قريته، وبتنبيه الكل لأهمية المشروع حتى لو يكونوا ذوى صلة به، ولم يفتنى أن أنبهه لذلك ذات مرة فلم يجبنى غير بنظرة وصمت.

أكنت حقا يا حمدى وبكل هذا الحرص تلقى للجميع بوصيتك الأخيرة؟

هل يدُفع الروائى بفعل عشقه للرواية إلى مأزق وجودى رسم ملامح حياته وطبع رواياته كلها؟

أسأل نفسى الآن هذا السؤال كما سألته مرارا فى السابق. ربما لن يفهم من لم يعرفوا حمدى أبوجليل جيدا ما أقصده بعشقه للرواية. فهو كان يشغف بالرواية شغفا، حالة تامة من الشغف الفائق والاشتعال العميق بكتابة الرواية عاشها حتى وهو نائم فى أحلامه. فى ندوة مناقشة روايته الأخيرة التى كان يحضرها فى مكتبة سنورس العامة قلت إن حمدى عشق خلال حياته أشياء كثيرة لا تحصى، لكنك – ربما – لو حللت مادة عشقه لكل الأشياء لوجدتها مادة روائية لم تكتف فقط بأن تكون مظهرا لعشقه العظيم أو أداة التعبير عنه.

ذات مرة عرّف الحب على صفحته فى فيس بوك بأنه شعور حاد وبلا حدود بالتقصير. وتلك كانت معاناته التى عبّر عنها فى معظم فترات حياته تجاه الكتابة حبا وتقصيرا. كان يعبر عن هذا الشعور دائما منذ روايته الأولى حتى الأخيرة، أصبحت لك الآن رواية أخيرة يا حمدي.

فى روايته الأولى كتب عن الأشياء المفيدة فى كتابة الرواية ثم تساءل بإزاء فيض الروايات المتزاحم بداخله: «ولكن أى رواية؟! خمس سنوات وأنا أخرج من رواية لرواية، أبدأ فى الواحدة وأفرح بها وتتوالى الصفحات طيعة وسهلة وفجأة تنفتح رواية أخرى» ، فى روايته التالية «لصوص متقاعدون» التى وصفتها بأنها فى العمق – فى العظم - وتحت كساء حدثى فوار من السرد المشوق تفكير شامل فى الرواية، فى معاناة الغرام بالرواية، فى التنظير لها كاستعارة وجودية وفلسفية تامة وشاملة.

تحكى «لصوص متقاعدون» عن الخوف الذى دفع بطلها الريفى المهاجر للمدينة والذى يسكن بيتا من أربعة طوابق فى منطقة «منشية ناصر» ليتقمص هيئة شخصية روائية يؤلفها كل يوم على مقاس المحيطين. تحدثت رواية حمدى أيضا عن ذلك الممثل المسكين الذى يعيش فى أعماق كل منا بشكل ما، الممثل الذى يؤدى دورا واحدا محدودا بظروف العمل والتقاليد والأسرة واللياقة، وفى سبيل اتقان كل منا لهذا الدور علينا أن نعيش جميعا كأقنعة تقمع رغباتنا الحقيقية، فجمهورنا المتحفز ضد كل ما لا يتوقعه لا يرحم رغم أنه جزء منا.

بهذه الكتابة وقع أبوجليل كثيرا تحت وطأة جمهورنا الذى لا يرحمنا فى كل مرة نخالف فيها توقعاته لنبدى رغباتنا الحقيقية، ورغباتنا الحقيقية هى أيضا لا ترحم حين يكون الإنسان منا ملهما ومحترقا بموهبته الخلاقة. رغبة حمدى كانت - فقط - الكتابة الحقيقية لرواية حقيقية، رواية خالية من الأقنعة والزيف والتمثيل، لا تشبه الحياة فى مظهرها الخارجى وحده، ولكن فى أعماقها الباطنية أيضا.

وفى كل مرة فعلها كان لابد وأن يتعرض لثقل جمهورنا القاسى «من أقرب الناس إلينا». ليس هناك كاتب آخر تقريبا لم يتعرض لهذا المأزق، فحريات كل الكتّاب فى العالم العربى بأكمله لو جمعناها - كما قال يوسف إدريس محقا – لا تكفى كاتبا واحدا.

كل روائى طبقا لذلك قد يكون – بدرجة وبدرجة أخرى - نائبا عن الجنس الروائى الحديث نفسه فى معاناة مأزقه الوجودى فى تلاقحه مع الثقافة العربية، لأن الرواية كقالب ورؤى وتقنيات عاجزة عن النجاح مع القيام بما قام به الشعر العربى القديم الذى سُمى «ديوان العرب» بسبب اضطلاعه بمهام عديدة، من بينها مهمة الفخر وتقديم المدائح الواقعية وغير الواقعية للذات القومية، بما فى ذلك وجهها الآخر وهو تقديم الذم ومطولات الهجاء والتنقيص لكل ما يعتبر ليس عربيا أو ليس نافعا لعربي.

حمدى كان يمكن أن يتعرض لعقاب متضاعف باستمرار لأنه نجح فعلا فى زحزحة جمهوره ليصبح خارجه، وأصر بالتالى على أن يؤدى فى رواياته دور الروائى لا أن يصبح شخصية روائية مندسة مع كل الاحتياط المألوف فيها، أراد أن يكون هو الأب الشرعى الحر والخالق لواقع وخيال تجربته الروائية، وأن يترك للرواية حرية ربات الفن فى خلق نفسها وخلق عالمها وخلق كاتبها معها فى لحظة الإبداع الخارقة.  

فى سنة 2014 كلمنى أبوجليل فى شأن الكتابة لجريدة المقال التى أسسها الكاتب الكبير «إبراهيم عيسى» قائلا بنبرته القاطعة: الجريدة الحلم. سألته متشككا: فكرك؟ رد بحسم أكثر: أكتب كما تريد بحريتك تماما.

للحرية «الشنعاء» باب بكل يد مضرجة يدق وهكذا مارسنا طويلا التلاعب المرح ببيت «أبى قاسم الشابي» الشهير، لكننا كنا نعيش آنئذ نشوة ما بعد ثورة يونيو 2013، وكان من الجائز - كما كنا نأمل - أنها لحظة من أكثر اللحظات المواتية فى تاريخنا الحديث – ربما - لتحقيق هذا الحلم المستحيل: كتابة عقلانية حرة بشكل حقيقى يتقبلها الناس كوضع طبيعى فى الكتابة وبلا عواقب مؤذية، لكنى فى نفس الوقت لم أعد أعتقد تقريبا – بالخبرة الجماعية المستقرة والمقبضة – أن حلما كهذا قابل للتحقيق بالفعل. إنما وعلى كل حال يظهر إننا «عملناها يا حمدي»، كما كنت أعبر له عن سعادتى بالاستمرارية فى كل عيد ميلاد سنوى للجريدة.

صحيح أننا عملناها بعواقب أيضا ووسط هجوم عاصف لا يهدأ حتى يقوم، وصحيح أن الأستاذ إبراهيم عيسى ظل يدفع ثمن «الحرية الشنعاء» طيلة أعوام صدور الجريدة، وصحيح أننا عملناها لمدة محدودة قبل أن يُحكم الحصار من حول الجريدة وتتوقف، لكننا على كل حال فعلناها بكل ما نكن من حب لحريتنا ووطننا وناسه وناسنا.

لكن أبوجليل – كما هى عادته – فعلها على طريقته.

لم يكن حمدى يؤمن بوجود حدود لقدرة العقل المصرى براقاته الثقافية وطبقاته الحضارية التى لا يعرفها ربما شعب آخر على وجه الأرض، كان يرى ويلمس ويعرف بالطبع تلك الحدود الصارمة والتقاليد المتراكمة لعقل ومجتمع لم يتخلص بعد عقود التحديث الطويلة من تقاليد وأنماط القرون الوسطى فى التفكير والتعبير، وكان يرى ويعرف ويلمس بالطبع تلك «الوصفة الميثولوجية» التى يضفى من خلالها المتشددون طابع الجمود على كل شيء، بحيث يبدو كما لو كان الجمود مسألة تتعلق بالإيمان والهوية والقداسة، لكنه كان يؤمن فى نفس الوقت - إيمانا مطلقا – بأنها كلها أمور لا تمثل غير أوهام أمام قدرة العقل المصرى غير المحدودة.

عندما كنا نقلب فكرة إنشاء قصر ثقافة فى قرية «دانيال» الكائنة على حدود صحراء الفيوم الجنوبية بنجوعها الكثيرة المسماة بأسماء عائلة حمدى وغيرها من العائلات العربية، وبعد أن ناقشنا العقبات والشكوك واقتنعنا اقتناعا تاما بجدوى وأهمية المشروع من كل الزوايا، انتقلنا للجانب العملى وخطوات التنفيذ. لم يكن لدى حمدى شك فى اقتناع المسئولين الذين سنخاطبهم بأهمية مشروعه من الوهلة الأولى، ارتكانا إلى أهمية ومحورية – بل ووجودية - مواجهة الدولة والمجتمع لظواهر التطرف والإرهاب.

كانت الشكوك كلها من جانبى وقلت له إن علينا أن نركز فى خطابنا على الوجوه الأخرى لأهمية المشروع، التنمية وازدهار الحرف البيئية، اكتشاف المواهب فى مجالات الفنون الشعبية البدوية التى تزخر بها المنطقة، إقامة المعارض وتنشيط السياحة فى منطقة حافلة بالمحميات الطبيعية والآثار المصرية واليونانية، ثم عللت ذلك بأن الظاهر لى أن عقولنا منقسمة على ذاتها، وأننا ربما صرنا نخشى التنوير وحرية الفكر بقدر لا يقل عن خشيتنا من التطرف والإرهاب.

وقتها نظر إليّ أبوجليل متأملا ثم قال بمرح: لاحظ إنك بتحبطني.

الآن وأنا أجزم بأن قصر ثقافة دانيال لم يكن مجرد فكرة ذات أهمية ولا مشروعا ثقافيا كبيرا بأكثر مما كان وصية حمدى الأخيرة، آمل لو أننى كنت أحبطته بالفعل ولو بعض الشيء، ألم يكن يمكن أن يؤدى تكيفك مع الاحباط بطريقة ما إلى بقائك بيننا يا حمدي، بقاؤك ولو قليلا ريثما تطمئن لأن وصيتك قطعت خطوة تمهيدية فى طريق التنفيذ..

نعم خسرناك يا صديقي، لا كصديق لا يعوض ولا يعول على الصداقة لو لم تكن كصداقته فقط، لا ككاتب استثنائى تحتفل القبائل بمثله قديما فقط، لا كمستكشف فذ لإمكانيات الكتابة الروائية فقط، لا كمثقف متخم بعشقه لكل شيء وتسامحه واتساع قلبه لكل أحد واتساع أفقه لكل معنى فقط ، لا كإنسان ملهم بمعانى إنسانيته فحسب، لكننا خسرناك مع كل شيء كرجل قضى أيام حياته الأخيرة منشغلا من أعماقه بمشروع بناء قصر ثقافة فى قريته، خسرناك كمصرى مكنته جذوره الممتدة بعمق واتساع طبقات من الثراء التاريخى والتراكم الحضارى النوعى والتعددى من أن يكون مصريا قادرا على كل شيء.

لكن ابق يا صديقي، أبق ما استطعت أرجوك، أبقى ولو لتجيب على الأقل على إحباط سؤالى لو أحببت أن أسألك الآن:

ها أنا قد كتبت يا حمدي، فما الذى حدث؟! ما الذى تغير؟!

أنت لاتزال بعد الكتابة الموجعة لست هنا حتى تجيبني.